كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ونحن لا نعرف كيف يتسمع الشيطان المارد؛ ولا كيف يخطف الخطفة؛ ولا كيف يرجم بالشهاب الثاقب. لأن هذه كلها غيبيات تعجز طبيعتنا البشرية عن تصور كيفياتها؛ ومجالنا فيها هو تصديق ما جاء من عند الله فيها.
وهل نعلم عن شئ في هذا الكون إلا القشور؟!
والمهم أن هذه الشياطين التي تمنع من الوصول إلى الملأ الأعلى، ومن التسمع لما يدور فيه هي التي يدعي المدعون أن بينها وبين الله نسباً، ولو كان شيء من هذا صحيحاً لتغير وجه المعاملة. ولما كان مصير الأنسباء والأصهار بزعمهم هو المطاردة والرجم والحرق أبداً!
وبعد ذكر الملائكة. وذكر السماوات والأرض وما بينما. وذكر الكواكب التي تزين السماء الدنيا. وذكر الشياطين المردة والقذائف التي تلاحقها.. يكلف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسألهم أهم أشد خلقاً أم هذه الخلائق؟ وإذا كانت هذه الخلائق أشد وأقوى ففيم يدهشون لقضية البعث ويسخرون منها، ويستبعدون وقوعها، وهي لا تقاس إلى خلق تلك الخلائق الكبرى:
{فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون}.
فاستفتهم واسألهم إذا كانت الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والشياطين والكواكب والشهب كلها من خلق الله. فهل خلقهم هم أشد وأصعب من خلق هذه الأكوان والخلائق؟
ولا ينتظر منهم جواباً، فالأمر ظاهر؛ إنما هو سؤال الاستنكار والتعجيب من حالهم العجيب. وغفلتهم عما حولهم، والسخرية من تقديرهم للأمور. ومن ثم يعرض عليهم مادة خلقهم الأولى. وهي طين رخو لزج من بعض هذه الأرض، التي هي إحدى تلك الخلائق:
{إنا خلقناهم من طين لازب}..
فهم قطعاً ليسوا أشد خلقاً من تلك الخلائق! وموقفهم إذن عجيب. وهم يسخرون من آيات الله، ومن وعده لهم بالبعث والحياة. وسخريتهم هذه تثير العجب في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم وهم في موقفهم سادرون:
{بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون}..
وحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعجب من أمرهم. فإن المؤمن الذي يرى الله في قلبه كما يراه محمد صلى الله عليه وسلم ويرى آيات الله واضحة هذا الوضوح، كثيرة هذه الكثرة، يعجب لا شك ويدهش كيف يمكن أن تعمى عنها القلوب؟ وكيف يمكن أن تقف منها هذا الموقف العجيب!
وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجب منهم هذا العجب، إذا هم يسخرون من القضية الواضحة التي يعرضها عليهم، سواء في وحدانية الله، أو في شأن البعث والنشور. وإذا هم مطموسون لا تتفتح قلوبهم للتذكير. وإذا هم يتلقون آيات الله بالسخرية الشديدة، والتعجيب ممن يريهم إياها، واستدعاء أسباب السخرية وطلبها طلباً كما يوحي لفظ {يستسخرون}!
ومن ذلك وصفهم القرآن بأنه سحر، وعجبهم مما يعدهم به من البعث:
{وقالوا إن هذا إلا سحر مبين.
أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون}..
لقد غفلوا عن آثار قدرة الله فيما حولهم، وفي ذات أنفسهم. غفلوا عن آثار هذه القدرة في خلق السماوات والأرض وما بينهما؛ وفي خلق الكواكب والشهب؛ وفي خلق الملائكة والشياطين؛ وفي خلقهم هم أنفسهم من طين لازب.. غفلوا عن آثار القدرة في هذا كله ووقفوا يستبعدون على هذه القدرة أن تعيدهم إذا ماتوا وصاروا تراباً وعظاماً، هم وآباءهم الأولين! وما في هذا البعث والإعادة من غريب على تلك القدرة ولا بعيد؛ لمن يتأمل هذا الواقع ويتدبره أقل تدبر؛ في ضوء هذه المشاهدات التي تحيط بهم في الآفاق وفي أنفسهم.
وإذ كانوا لا يتدبرون هذه المشاهدات في هوادة ويسر، وفي طمأنينة وهدوء. فهو يوقظهم إذن بشدة وعنف، على مشهدهم في الآخرة مبعوثين. ويصور لهم ذلك المشهد وهم فيه يضطربون:
{قل نعم وأنتم داخرون}..
نعم ستبعثون أنتم وآباؤكم الأولون. ستبعثون وأنتم داخرون، ذلولون، مستسلمون. غير مستعصين ولا متأبين.. نعم.. ثم يدخل في استعراض ذلك كيف يكون. وإذا هم أمام مشهد من المشاهد المطولة المتعددة الجوانب. المتنوعة الأساليب. المزدحمة بالمناظر الحية والحركات المتتابعة. يلتقي فيها الوصف بالحوار. فتسير على نسق الحكاية فترة، ثم تنتقل إلى نسق الحوار أخرى. ويتخلل عرض الأحداث والحركات تعليقات وتعقيبات عليها. وبذلك يستكمل المشهد كل سمات الحياة:
{فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون}..
هكذا في ومضة خاطفة بمقدار ما تنبعث صيحة واحدة. تسمى {زجرة} للدلالة على لون من الشدة فيها، والعنف في توجيهها، والاستعلاء في مصدرها.. {فإذا هم ينظرون}.. فجأة وبلا تمهيد أو تحضير. وإذا هم يصيحون مبهوتين:
{وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين}..
وبينما هم في بهتتهم وبغتتهم إذا صوت يحمل إليهم التقريع من حيث لا يتوقعون:
{هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون}..!
وهكذا ينتقل السياق من الخبر إلى الخطاب موجهاً لمن كانوا يكذبون بيوم الدين. وإن هي إلا تقريعة واحدة حاسمة: ثم يوجه الأمر إلى الموكلين بالتنفيذ:
{احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فأهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون}.
احشروا الذين ظلموا ومن هم على شاكلتهم من المذنبين، فهم أزواج متشاكلون.. وفي الأمر على ما فيه من لهجة جازمة تهكم واضح في قوله: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم}.. فما أعجبها من هداية خير منها الضلال. وإنها لهي الرد المكافئ لما كان منهم من ضلال عن الهدى القويم. وإذ لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم!
وها هم أولاء قد هدوا.
هدوا إلى صراط الجحيم. ووقفوا على استعداد للسؤال. وها هو ذا الخطاب يوجه إليهم بالتقريع في صورة سؤال بريء!
{ما لكم لا تناصرون}!
ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً، وأنتم هنا جميعاً؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر المعين؟! ومعكم آلهتكم التي كنتم تعبدون!
ولا جواب بطبيعة الحال ولا كلام! إنما يرد التعليق والتعقيب:
{بل هم اليوم مستسلمون}..
عابدين. ومعبودين!!!
ثم يعود السياق مرة أخرى إلى الحكاية، ويعرض مشهدهم يجادل بعضهم بعضاً:
{وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين}..
أي كنتم توسوسون لنا عن يميننا كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالباً فأنتم مسؤولون عما نحن فيه. وعندئذ ينبري المتهمون لتسفيه هذا الاتهام، وإلقاء التبعة على موجهيه:
{قالوا بل لم تكونوا مؤمنين}..
فلم تكن وسوستنا هي التي أغوتكم بعد إيمان، وأضلتكم بعد هدى..
{وما كان لنا عليكم من سلطان}..
نرغمكم به على قبول ما نراه، ونضطركم إليه اضطراراً لا ترغبون فيه.
{بل كنتم قوماً طاغين}..
متجاوزين للحق، ظالمين لا تقفون عند حد.
{فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون}..
فاستحققنا نحن وأنتم العذاب، وحق علينا الوعيد بأن نذوق العذاب.
وقد انزلقتم معنا بسبب استعدادكم للغواية، وما فعلنا بكم إلا أنكم اتبعتمونا في غوايتنا:
{فأغويناكم إنا كنا غاوين}..
وهنا يرد تعليق آخر، وكأنه حكم يعلن على رؤوس الأشهاد، يحمل أسبابه، ويعرض ما كان منهم في الدنيا مما حقق قول الله عليهم في الآخرة:
{فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون}.
ثم يكمل التعليق متوجهاً فيه بالتأنيب والتقبيح لقائلي هذا الكلام المرذول:
{بلى جاء بالحق وصدق المرسلين إنكم لذائقو العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين}..
وعلى ذكر عباد الله المخلصين الذين استثناهم من تذوق العذاب الأليم يعرض صفحة هؤلاء العباد المخلصين في يوم الدين. ويعود العرض متبعاً نسق الإخبار المصور للنعيم الذي يتقلبون في أعطافه في مقابل ذلك العذاب الأليم للمكذبين:
{أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون...}.
وهو نعيم مضاعف يجمع كل مظاهر النعيم. نعيم تستمتع به النفس ويستمتع به الحس. وتجد فيه كل نفس ما تشتهيه من ألوان النعيم.
فهم أولاً عباد الله المخلصون. وفي هذه الإشارة أعلى مراتب التكريم. وهم ثانياً {مكرمون} في الملأ الأعلى. وياله من تكريم! ثم إن لهم {فواكه} وهم على {سرر متقابلين}.
وهم يخدمون فلا يتكلفون شيئاً من الجهد في دار الراحة والرضوان والنعيم: {يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون}.. وتلك أجمل أوصاف الشراب، التي تحقق لذة الشراب، وتنفي عقابيله. فلا خمار يصدع الرؤوس، ولا منع ولا انقطاع يذهب بلذة المتاع! {وعندهم قاصرات الطرف عين} حور حييات لا تمتد أبصارهن إلى غير أصحابهن حياء وعفة، مع أنهن {عين} واسعات جميلات العيون! وهن كذلك مصونات مع رقة ولطف ونعومة: {كأنهن بيض مكنون}.. لا تبتذله الأيدي ولا العيون!
ثم يمضي في الحكاية المصورة؛ فإذا عباد الله المخلصون هؤلاء بعد ما يسرت لهم كل ألوان المتاع ينعمون بسمر هادئ، يتذاكرون فيه الماضي والحاضر وذلك في مقابل التخاصم والتلاحي الذي يقع بين المجرمين في أول المشهد وإذا أحدهم يستعيد ماضيه، ويقص على إخوانه طرفاً مما وقع له:
{قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمدينون}..
لقد كان صاحبه وقرينه ذاك يكذب باليوم الآخر، ويسائله في دهشة: أهو من المصدقين بأنهم مبعوثون فمحاسبون بعد إذ هم تراب وعظام؟!
وبينما هو ماض في قصته يعرضها في سمره مع إخوانه، يخطر له أن يتفقد صاحبه وقرينه ذاك ليعرف مصيره. وهو يعرف بطبيعة الحال أنه قد صار إلى الجحيم. فيتطلع ويدعو إخوانه إلى التطلع معه:
قال: {هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم}..
عندئذ يتوجه إلى قرينه الذي وجده في وسط الجحيم. يتوجه إليه ليقول له: يا هذا. لقد كدت توردني موارد الردى بوسوستك. لولا أن الله قد أنعم علي، فعصمني من الاستماع إليك:
{قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين}..
أي لكنت من الذين يساقون إلى الموقف وهم كارهون.
وتثير رؤيته لقرينه في سواء الجحيم شعوره بجزالة النعمة التي نالها هو وإخوانه من عباد الله المخلصين. فيحب أن يؤكدها ويستعرضها، ويطمئن إلى دوامها، تلذذاً بها وزيادة في المتاع بها فيقول:
{أفما نحن بميتين إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم}..
وهنا يرد تعليق يوقظ القلوب ويوجهها إلى العمل والتسابق لمثل هذا المصير:
{لمثل هذا} النعيم الذي لا يدركه فوت، ولا يخشى عليه من نفاذ، ولا يعقبه موت، ولا يتهدده العذاب. لمثل هذا فليعمل العاملون.. فهذا هو الذي يستحق الاحتفال. وما عداه مما ينفق فيه الناس أعمارهم على الأرض زهيد زهيد حين يقاس إلى هذا الخلود.
ولكي يتضح الفارق الهائل بين هذا النعيم الخالد الآمن الدائم الراضي؛ والمصير الآخر الذي ينتظر الفريق الآخر. فإن السياق يستطرد إلى ما ينتظر هذا الفريق بعد موقف الحشر والحساب الذي ورد في مطلع المشهد الفريد:
{أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين}.